يُعتبر الحبس الانفرادي واحداً من أشدّ أنواع العقاب، التي تطبّق على نُزلاء السجون في مختلف بقاع العالم، وقد يكون هذا الحبس مصحوباً بطرق أخرى لتعذيب السجين، مثل مساحة الزنزانة التي يطبّق فيها هذا العقاب، أو تخفيض عدد الوجبات التي تُقدّم له، أو حجب الأغطية والفراش المسموح له بها، أو منع بعض الوسائل الترفيهية عنه؛ مثل الجرائد والكتب.
وعلى الرغم من بشاعة هذه الطرق وقسوتها؛ فإن السمة الأساسية لهذا النوع من العقاب تبقى هي العزلة عن الآخرين؛ فقد عرف الخبراء -الذين ابتدعوا هذا النوع من العقاب منذ نبضات التاريخ الأولى- أن بقاء الإنسان وحيداً أمرٌ صعب عليه؛ لأنه لا يوجد وسيلة يعبّر بها عن نفسه غير إطلاق العنان للأفكار المخزونة داخل عقله.
ولأن زبانية الجحيم ممن ابتكروا ذلك العقاب يتمتّعون بقسط معقول من دراسة النزعات الإنسانية؛ فقد عرفوا أن أغلب الناس لن يستطيعوا السيطرة على مشاعرهم في هذا الوضع، وستسيطر عليهم حالة من الضعف والضآلة؛ مما يؤدي إلى إطلاق العنان للأراجيف والهواجس، والأفكار المُذِلّة.
حبس انفرادي في غير مكانه
كل هذا نتيجة لشعور الإنسان بالوحدة وافتقاده لأنيس يصاحب روحه، ويشاركه ساعاته ودقائقه بتفاصيلها؛ فالمشاركة -ولو في العقاب أو الظروف السيئة- تخفف كثيراً من وطأة السنين وسرعة دوران الزمن، وبالطبع فوجود الحبس الانفرادي في السجون والمعتقلات هو أمر مفهوم، والغرض منه معلوم.
ولكن أن يوجد هذا العقاب القاسي خارج أسوار السجون؛ هو الأمر الغريب، والشيء العجيب، والأكثر عجباً أن يُصبح السجّان القائم على تنفيذه هو نفس الشخص المحبوس!!
لعلك فهمت مقصدي من وراء هذا الكلام.. نعم كما تقول؛ فالحبس الانفرادي الذي أتحدث عنه هو ما يمارسه أغلبنا من فرض العزلة على نفسه، والانزواء بعيداً عن الآخرين حتى لو كان وسطهم.
إنه واحد من أشد العقوبات التي نحكم بها على أنفسنا.. ولماذا نفعل ذلك؟
لأن بعض من نتعامل معهم قد ضايقوننا، أو أهانوننا، أو خانوننا؛ فنحن المجني علينا بسببهم؛ فماذا فَعَلنا؟
جريمة لم نرتكبها.. وعقاب لا نستحقه
لقد قررنا معاقبة أنفسنا بالحبس الانفرادي داخل أسوار ذاتنا بسبب جريمة لم نرتكبها، وزِدنا من الطين بلة، وارتحنا أن نكون ضحايا مرة أخرى للآخرين، مع الاختلاف في أن يكون الظلم الواقع علينا هذه المرة من أنفسنا.
إذا كنت ترى في كلامي شيئاً من المبالغة؛ فأنا أدعوك لتنظر حولك وتتأمل أحوالنا؛ فانظر لهذا الشاب الذي يجلس دائماً وحيداً إما منعزلاً عن أهله في غرفته الخاصة، وفي الأماكن العامة تراه يُصِرّ على هذه الوحدة، ومن الصعب أن يستجيب لفتح كلام من أحد رواد المكان المجاورين له.
وتأمّل معي تلك الفتاة التي جعلت من ادعائها الغرور درعاً لها للابتعاد عن زميلاتها، وكل من تحاول التَّقَرُّب منها.
انظر كيف صرنا نبني الأسوار العالية بيننا وبين من حولنا، معتقدين أنها دروع حامية لنا؛ مع أنها في الحقيقة ليست إلا قضباناً تحيط بنا لنصبح -بمرور الوقت- مقيمين في سجن دائم صنعناه بأنفسنا.. لأنفسنا!!
لا تحرق المنزل
إننا بذلك الفعل نقلّد ذلك الأحمق الذي وجد في بيته أثراً لحشرة أو حيوان قارض يعبث بفضلات الطعام؛ فقرر أن يقضي عليه بأن يحمل مِشعل نار ليخيفه به فيطرده أو يقتله، وبدأت المطاردة، وفي النهاية قُتل هذا الحيوان المضرّ؛ ولكن بأي ثمن؟ لقد حرق المنزل بأكمله!!
فلماذا نحاول حرق حياتنا بكل ما فيها من جمال وذكريات وطُموح بسبب بعض الأشخاص الذين خذلوننا، ولم يكونوا على قدر ثقتنا بهم؟!
فكم صديقاً عرفتَ لم يكن أهلاً لهذه الصداقة، وكم وغداً وَعَدَكِ بأن يكون شريك حياتك وتخلى عن وعوده، وكم شخصاً تتعامل معه وتجده يحاول إهانتك أو السخرية منك بلا داعٍ.. واحد، اثنان، ثلاثة، عشرة، عشرون، مائة...؟
حتى وإن كانوا أكثر؛ فما زال هناك الملايين من الناس أنت لم تتعامل معهم بعد، وربما وجدت بينهم العديد ممن يستحقون أن يُكملوا معك مشوار الحياة كأصدقاء، أو زوجات وأزواج، أو حتى كزملاء عمل أو جيران.
عُد للحياة
ألغِ حبسك الانفرادي وعُد للحياة.. اهدم تلك الأسوار المصطنعة من حياتك، وقابل الناس بابتسامة بسيطة غير متكلفة، وتقبّل محاولتهم للتقرب منك -بالطبع داخل حدود الشرع والأعراف- إذا شعرت بصدقها، وتعلّم كيف تكسبهم، وتحافظ على صداقاتهم، دون أن تقلّل من نفسك.
فصحبة الناس قد تكون صعبة، وتسبب بعض الألم، أو الكثير منه؛ ولكن العزلة والحبس الانفرادي داخل الذات قد يكون الجحيم نفسه؛ فاحذر منه، ولا تنسَ أن تحدّثني عن نفسك وتخبرني: هل تفضّل الحبس الانفرادي داخل نفسك، أم أنك على استعداد لمخالطة الناس وتحمّل أذاهم.
اتمنى نستفيد كلنا معلش بقى الموضوع طويل شويتين